الاثنين، 9 يونيو 2008

مجبة تتحدى الإحتلال

طبيعة الصراع في فلسطين ومستقبل الانتفاضة

دراسة بقلم: الدكتور ابراهيم علوشأستاذ الاقتصاد في جامعة البترا ورئيس تحرير مجلة الصوت العربي الحر على شبكة الانترنت
أولاً - جوهر الصراع التاريخي: هوية الأرض
منذ وضعت الحركة الصهيونية فلسطين هدفاً لها، قامت استراتيجيتها طويلة المدى على تنمية ثلاثة عناصر قوة أساسية ما برحت حتى يومنا الحاضر ترعاها وتعززها بكل ما تملك من عزم، وإن كانت قد أضافت عناصر قوة أخرى إليها فيما بعد. ولكنَّ عناصر قوة المشروع الصهيوني الأولية في فلسطين بقيت تتمثل في:
1 - الهجرة إلى فلسطين، وقد جاءت موجة الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين عام 1882، وبدأت موجة الهجرة اليهودية الثانية حوالي عام 1895، حسب معظم المراجع التاريخية، ومنها مثلاً كتاب الدكتور عبد الوهاب الكيالي «تاريخ فلسطين الحديث» (الفصل الثاني). الهجرتان جاءتا في فترة حكم السلطان عبد الحميد الواقعة ما بين عامي 1876 و1909، وخلالها بدأ تأسيس المستعمرات اليهودية الأولى في عيون قارة (ريشون ليتسيون) وفي ملبس (بتاح تكفا) وفي زمّارين (زخرون يعقوب)، وخلالها أيضاً عادت الهجرة الصهيونية إلى الاشتداد عام 1905 واستمرت حتى عام 1914. وساء الأمر بالتأكيد بعد وصول جماعة «تركيا الفتاة»، الصهيونية النزعة، إلى الحكم في عام 1908. وبالرغم من ذلك، أتت الكتلة اليهودية الأساسية إلى فلسطين من أوروبا الشرقية، كما هو معروف في ظل الانتداب البريطاني الذي دام في فلسطين حوالي ثلاثين عاماً انتهت عام 1948. ومن الواضح أننا نتحدث هنا عن الهجرات الكبيرة نسبياً والمنظمة، وليس عن انسياب بعض اليهود إلى فلسطين قبل الموجات البادئة عام 1882.
أما اليهود العرب، فقد هجّروا تهجيراً إلى فلسطين في بداية الخمسينات، إثر أعمال إرهابية قامت بها الحركة الصهيونية سراً ضدهم في العراق ومصر أساساً، كما اتضح فيما بعد بما يعرف باسم فضيحة لافون في «إسرائيل» مثلاً، حول إلقاء القنابل على أماكن تجمع اليهود في القاهرة والإسكندرية. وساهم تواطؤ الأنظمة الحاكمة آنذاك في العراق واليمن ومصر بهجرة اليهود العرب إلى فلسطين أيضاً، كما اتضح من قانونٍ سُنَّ في 3 آذار/ مارس 1950 في ظل الحكم الملكي في العراق يسمح لكل يهودي بالهجرة بشرط التخلي عن جنسيته العراقية، تم بعده فتح مكاتب لتسجيل أسماء اليهود الراغبين بالهجرة، فلمَّا لم يستجيبوا، بدأت النشاطات الإرهابية الصهيونية ضدهم فاستجابت حكومة الولايات المتحدة لهذا «الوضع الإنساني» بجسر جوي لنقل أكثر من مائة ألف يهودي عراقي إلى فلسطين.
وكانت مصلحة الفلسطينيين والعرب والمسلمين تقتضي، على النقيض من ذلك، بذل كل الجهود الممكنة لإبقاء اليهود، عرباً كانوا أم غير عرب، في البلاد التي أتوا منها، لا تسهيل قدومهم إلى فلسطين، لكن جرثومة العمالة عند حكام العرب بقيت تفعل فعلها حتى بعد ذلك بعقود، كما اتضح مثلاً من دور جعفر النميري حاكم السودان الأسبق في تسهيل هجرة يهود الفلاشا من أثيوبيا إلى دولة العدو في الثمانينات.
بالطبع، مع وصول الكتلة اليهودية في فلسطين إلى النقطة الحرجة critical point التي تمكنها من تصعيد مشروع التهويد في قفزة نوعية، أصبح الوجه الآخر للهجرة اليهودية إلى فلسطين هو تهجير الفلسطينيين منها بجميع الوسائل. وكان من ذلك، كما هو معروف، تهجير حوالي مليون فلسطيني عام 1948، وتهجير بضع مئات من الآلاف عام 1967، وكل تلك الإجراءات التي يتخذها الاحتلال لدفع الشعب الفلسطيني للتخلي عن أرضه. فالشعب الفلسطيني أكثر من نصفه مهجر من أرضه، ومازالت مشاريع التهجير مطروحة اليوم حتى بالنسبة للفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة عام 1948 .ولكن الهجرة اليهودية إلى فلسطين تبقى العنصر الأولي في مشروع التهويد زمنياً وديموغرافياً، والعناصر الأولية هي موضع التركيز هنا.
2 - امتلاك الأراضي في فلسطين، شكل العنصر الثاني من عناصر استراتيجية الحركة الصهيونية لإحكام السيطرة على فلسطين. ويشار في هذا الصدد الى أنَّ كل جهود الحركة الصهيونية حتى عام 1948 لم تسفر عن السيطرة على أكثر من 5,6 بالمائة من أرض فلسطين التي تزيد عن 27 ألف كيلومتر مربع بقليل، في الوقت الذي كان فيه اليهود عند إعلان الدولة الصهيونية في فلسطين يشكلون حوالي 31 بالمائة من السكان فقط، وبالتالي، ليس صحيحاً القول أن الأرض بيعت بيعاً. ومرة أخرى، لا بد من الإشارة إلى أن امتلاك الحركة الصهيونية للأراضي الفلسطينية اصطدم بتمسك الفلاح العربي الفلسطيني بأرضه، ولكنه لم يصطدم بسيطرة الحكم العثماني الذي لم يتمكن من منع استيلاء الصهاينة على الأرض الفلسطينية بقدر ما لم يتمكن من منع الهجرة إليها. فالحساب بالدونمات (لا بالكيلومترات المربعة) لتوزيع الأراضي التي امتلكها اليهود في فلسطين يوم 15 أيار/مايو 1948، أي توزيع الـ5,6 بالمائة من فلسطين الواقع تحت سيطرة اليهود بعد مجهودات عقود، هو كما يلي:
420 ألف دونم في ظل العهد العثماني، و500 ألف دونم منحتهم إياها سلطات الانتداب البريطاني، و625 ألف باعها إقطاعيون من الدول المجاورة لفلسطين، و261 ألف دونم بموجب قانون نزع الملكية وبشتى الوسائل الأخرى: كالاحتيال والابتزاز والتزوير، إضافةً إلى شراء نسبة صغيرة جداً من الفلاحين الفلسطينيين. (المصدر: القضية الفلسطينية بالرسم والكلمة، تأليف نصري الطرزي وتقديم بهجت أبو غربية، إصدار جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية في عمان عام 1997، الصفحة 55). وهنالك مصادر أخرى تضع مساحة الأراضي التي امتلكها الصهاينة في ظل الحكم العثماني عند 650 ألف دونم، أي النسبة الأكبر من أي مصدر آخر بمفرده (أنظر: الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية 1882 - 1948، تأليف ناجي علوش، إصدار دار الطليعة، بيروت، عام 1978، الطبعة الثانية، الصفحة 13).
المهم أن الحركة الصهيونية بالنسبة لموضوع الأرض: أ) امتلكت مواطئ قدم أساسية لها في ظل العهد العثماني، ب) لم تتمكن من السيطرة على أكثر من نسبة واحد على ثمانية عشر (18/1) من مساحة فلسطين على مدى عقود من الجهود المكثفة والدعم الدولي ووسائل التزوير والتفوق المالي على الشعب الفلسطيني، ج) استخدمت الرقعة الصغيرة التي سيطرت عليها مع مجيء العام 1948 كقاعدة خلفية لاحتلال 78 بالمائة من مساحة فلسطين بقفزة واحدة، على الرغم من أن قرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947 كان قد أعطى اليهود 55 بالمائة فقط من مساحة فلسطين، أي عشرة أضعاف المساحة التي كانوا يمتلكونها فعلاً، والتي حصلوا عليها بوسائل غير مشروعة أصلاً. وهذه الاستراتيجية الصهيونية القائمة على الحصول ببطء على مواطئ قدم ليتم من ثم استخدامها كقواعد خلفية للانقضاض على الفريسة بقفزة واحدة هي ما يجب أن يفكر به الذين يسمحون للصهاينة اليوم أن يشتروا الأراضي خارج فلسطين، وأن يتغلغلوا في اقتصادياتهم.

3 - توثيق العلاقات الدولية مع القوى الاستعمارية العظمى، شكَّل العنصر الثالث من عناصر المشروع الصهيوني في فلسطين. والمعروف أن المشروع الصهيوني في فلسطين ما كانت لتقوم له قائمة وما كان ليستمر حتى اليوم لولا الرعاية والدعم السخي الذين قدمتهما له القوى الاستعمارية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. لا بل إن بعض أجنحة الحركة الصهيونية، وبالتحديد منظمة شتيرن، اتصلت بألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية عام 1941 وعرضت عليها التعاون معها مقابل قيام دولة يهودية في فلسطين تكون خاضعة لها عندما بدأت موازين الحرب تميل لمصلحة ألمانيا. وكان التعاون الصهيوني-النازي قد أثمر بين عامي 1933 و1941 عن اتفاق الهافارا الذي انتقل بموجبه ستون ألف يهودي من ألمانيا إلى فلسطين حاملين معهم مقادير كبيرة من رأس المال والخبرة، لا بل إنَّ هؤلاء اليهود الآتين من ألمانيا كانوا يشكلون عشرة بالمائة من السكان اليهود عندما قامت الدولة الصهيونية. ولولا جهود الحاج أمين الحسيني، الذي بنى علاقات جيدة مع ألمانيا النازية، لما توقف التعاون النازي-الصهيوني، ولربما تجاوبت ألمانيا مع دعوة المنظمة الصهيونية شتيرن للتعاون، حيث أن الحكومة البريطانية آنذاك كانت تضع بعض القيود المؤقتة على الهجرة اليهودية إلى فلسطين استرضاءً للرأي العام العربي خلال الحرب العالمية الثانية التي كانت تخوضها، مما أثار حفيظة بعض الصهاينة، ومنهم منظمة شتيرن.
المهم، فلنلاحظ نزوع الحركة الصهيونية إلى السعي لبناء أفضل العلاقات دائماً مع أقوى دولة استعمارية في كل حقبة تاريخية، وإلى تحويل مركز ثقلها الدولي إلى الجالية اليهودية في تلك الدولة، كما يتجلى اليوم من خلال دور الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، دون إهمال نشاطاتها في الدول الأخرى.
ولا خلاف بين أهل الرأي حول دور القوى الاستعمارية في نشوء وبقاء الكيان الصهيوني، بيد أن الخلاف يكمن في حيثيات هذا الدور: هل ينبع من هيمنة الحركة الصهيونية على القرار السياسي في تلك الدول، أم من اعتبار الدول الاستعمارية أن الحركة الصهيونية تحقق أغراضها؟ بعبارة أخرى مثلاً، هل تسيطر الولايات المتحدة على اليهود أم اليهود على الولايات المتحدة؟ هذا هو السؤال الذي قد يختلف فيه الناس. وهو ليس الموضوع الأساسي لهذا البحث، بل يعالجه كاتب هذه السطور في موضع آخر بإمكان مستخدمي الإنترنت أن يجدوه على العنوان التالي:
http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/alYahudWaLWilayatuLMuttahida.htm
إذن، ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أهمية فلسطين بالنسبة للقوى الاستعمارية قديماً وحديثاً. والخلاصة هنا أن نجاح الحركة الصهيونية في كسب القوى الاستعمارية إلى جانبها لا ينبع من قدرات خارقة أو مواهب سحرية أو حتى من سيطرتها المادية أو المعنوية على الحكام في الدول الاستعمارية ولو وجدت أحياناً، بل من تقاطع المشروع الصهيوني مع المصالح الاستراتيجية للشرائح الحاكمة في الدول الاستعمارية. ولو كانت مصالح الحركة الصهيونية متعارضة مع مصالح الاستعمار لما تمكنت من تحقيق أي من أهدافها في فلسطين. فالحركة الصهيونية لم تنجح عن طريق «الفهلوة» بل عن طريق التركيز على ما تستطيع أن تقدمه للدول الاستعمارية في المنطقة العربية. وهذه هي النقطة المركزية التي يتجاهلها أولئك الذين يدعون اليوم إلى خطب ود الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تحقيق ما يعتقدون أنه «أهداف وطنية فلسطينية»، ولن ينجح هؤلاء بكسب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلا إذا استطاعوا أن يقنعوها بقدرتهم على خدمة مصالحها، وبالتالي بالانسجام مع المشروع الصهيوني.


فكرة تأسيس الكيان الصهيوني
لم تبدأ فكرة تأسيس الكيان الصهيوني أصلاً عند الحركة الصهيونية، بل عند الساسة البريطانيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم بالمرستون، الذي بدأ كوزير خارجية بريطاني ثم أصبح رئيساً للوزراء فيما بعد. وقد اعتبر هؤلاء بعد جهود محمد علي باشا التوحيدية والتحديثية في مصر، وبعد ضمه بلاد الشام والجزيرة العربية، «أنَّ عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين تشكل سداً منيعاً في وجه أية مخططات شريرة يعدها محمد علي باشا أو أي ممن يخلفه» (أنظر: تاريخ فلسطين الحديث، للدكتور عبد الوهاب الكيالي). وهناك بدأت القضية الفلسطينية ومشروع تهويد فلسطين، أي في العام 1840 على يد بالمرستون. وكان الهدف منذ ذلك التاريخ احتواء مصر وزرع حاجز بشري غريب بين الجناحين الآسيوي والأفريقي للأمة العربية، قبل نشوء الحركة الصهيونية رسمياً بعقود. وكان أن تدخلت القوى الاستعمارية آنذاك لإخراج محمد علي باشا من بلاد الشام والجزيرة العربية ولإعادتها تحت النفوذ العثماني. وكان من شروط بقاء محمد علي باشا وذريته في الحكم في مصر التوقف عن كل محاولات التحديث الصناعية والعسكرية التي قام بها، وتفكيك جيشه والمصانع التي شيدها. وبذلك ارتبطت منذ ذلك التاريخ في الوطن العربي ثلاث عمليات تاريخية: عملية الوحدة، وعملية التصنيع والتحديث، وعملية التخلص من قوى الهيمنة الخارجية والاحتلال، ارتباطاً وثيقاً لا يقبل الفكاك.
إذن مشروع تهويد فلسطين هو مشروع طرحته بريطانيا أساساً لاحتواء مصر، لكنه اكتسب أبعاداً أكبر فيما بعد، تصب في هدف تحقيق هيمنة بريطانيا على طرق التجارة العالمية ومنع قيام كتلة عربية موحدة تنافسها في هذا الجزء من العالم. ولا نستطيع فهم طبيعة الصراع في فلسطين دون رؤية هذا البعد التاريخي.
كما أن ما حدث بعد ذلك عزز قناعة بريطانيا والقوى الاستعمارية من بعدها بضرورة تهويد فلسطين. فالدولة العثمانية كانت تقاوم التمدد القيصري الروسي نحو البحر المتوسط ودول المشرق العربي ولذلك كانت تسعى بريطانيا للحفاظ على وجودها طوال القرن التاسع عشر في وجه محمد علي باشا أو غيره. ولكن مع فتح قناة السويس بجهود وتضحيات المصريين عام 1869، ازدادت أهمية موقع فلسطين الجغرافي.
ومع تحول التنافس البريطاني مع روسيا إلى تنافس مع ألمانيا الصاعدة في بدايات القرن العشرين، ومع توقيع الاتفاق الروسي-البريطاني عام 1907، بدأت الدولة العثمانية تفقد الكثير من أهميتها بالنسبة لبريطانيا. لذلك كان الاتفاق الروسي-البريطاني بداية النهاية للدولة العثمانية، فكانت تلك الفرصة التاريخية التي سمحت أن تستلم «تركيا الفتاة» السلطة في الدولة العثمانية عام 1908، وأن تقدم بريطانيا الدعم للثورات على الأتراك بعد ذلك، ولكن على أساس برنامج غير معلن يهدف إلى تفكيك المشرق العربي وإنشاء دولة يهودية في فلسطين. ومرة أخرى يتجلى هنا ترابط قضية الوحدة مع قضيتي التحرر من الاستعمار والتقدم الاقتصادي.
حتى ذلك الوقت، كانت بريطانيا تحصل على معظم نفطها من الولايات المتحدة، ولكن اكتشاف الثروة النفطية في الوطن العربي، ووصول البلاشفة إلى الحكم في روسيا، زاد من أهمية منطقتنا الاستراتيجية. كما أن وقوع معظم العالم في ذلك الوقت تحت هيمنة هذه القوة الاستعمارية أو تلك، ترك الأراضي التي كانت تسيطر عليها الدولة العثمانية واحدة من الأماكن القليلة في العالم القابلة للاقتسام الاستعماري. ثم نشأت الحاجة إلى استبدال استعمار جديد بالاستعمار القديم المباشر، وهو الأمر الذي كان يقتضي خروج البريطانيين من مصر بعد احتلالهم إياها عام 1882.

كل ذلك جعل الحاجة إلى خلق نظام إقليمي يحافظ على المصالح الاستعمارية في هذا الجزء من العالم حاجة ملحة، ليس لبريطانيا فحسب، بل لكل القوى الاستعمارية التي أعقبتها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وكان هذا النظام الإقليمي وما زال يقوم على دعامتين: التجزئة القطرية في الوطن العربي من جهة، والكيان الصهيوني في فلسطين من جهة أخرى.
وما زال مشروع تجزئة العرب وتفكيكهم، ومن ثم، تفكيك التفكيك وتجزئة التجزئة، التتمة المنطقية لترابط المصالح الصهيونية والاستعمارية في المنطقة العربية. وقد عاد مشروع التفكيك إلى الظهور بقوة في سياسة إدارة بوش الابن، ومن ذلك مشاريع تقسيم العراق وتفكيك مصر والسعودية التي ظهرت بقوة في وسائل الإعلام خلال التهيئة للعدوان على العراق. وهنا يجب أن نميز بين بعدين: 1) البعد التاريخي الذي يعكس ترابط المصالح الصهيونية والاستعمارية في المنطقة العربية على مدى قرن، مع وجود بعض التعارضات الجزئية هنا وهناك، كما حدث مثلاً عندما أعاقت بريطانيا مؤقتاً الهجرة اليهودية إلى فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية، و2) البعد السياسي الآني الذي ينعكس اليوم مثلاً في الولايات المتحدة في تحالف اللوبي اليهودي واليمين المسيحي وصقور المحافظين في الإدارة الأمريكية وشركات النفط والسلاح الأمريكية تحت لواء بوش الابن. وفي الحالتين، تبقى المصالح الصهيونية والاستعمارية مترابطة على أية حال.
ثانياً - برنامج مقاومة أدوات التهويد مقابل برامج التعايش
من هنا، أصبحت الحركة الصهيونية حاجة ملحة لمصالح قوى الهيمنة الخارجية في المنطقة العربية، وأصبح عنوان مشروعها: تهويد فلسطين. فالمعركة منذ البداية كانت على هوية الأرض. أما العلاقات الدولية والهجرة والسيطرة على الأراضي، ومن ثم احتلالها بالقوة، فلم تكن جميعها إلا أدوات هذا التهويد.
من هنا، يصبح النقيض التاريخي لمشروع تهويد فلسطين هو بالضرورة المشروع الذي يقوم على مقاومة أدوات التهويد، وعلى رأسها الهجرة والتهجير والاستيلاء على الأراضي. فلا يمكن لأي مشروع سياسي مناهض للصهيونية فعلاً أن ينطلق من قبول الوجود الصهيوني في فلسطين كأمر واقع، أو أن يعتبر أنه مناهض للصهيونية وهو يتعامل في الوقت ذاته مع أدوات التهويد في فلسطين كحقيقة لا بد من التعايش معها. إذ أن أي مشروع لا ينطلق من الرفض المطلق لأدوات التهويد هو بالضرورة مشروع غير مناهض للصهيونية، بل مشروع يحاول الانسجام معها فكرياً أو فعلياً بهذه الدرجة أو تلك. باختصار، هناك مشروعان تاريخيان فقط في فلسطين: المشروع الصهيوني من جهة، والمشروع المناهض له، أي مشروع التحرير، من جهةٍ أخرى. أما مشاريع التعايش بمختلف أشكالها، فإنها ليست سوى محاولات شرائح فلسطينية لايجاد موطئ قدم لها في المنظومة الإقليمية على أساس صيغة لا تمس جوهر مشروع تهويد فلسطين.
على أساس هذا المقياس، يمكن أن نقول بأن مشروع ما يسمى بالدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة هو مشروع يحاول أن يتعايش مع مشروع تهويد فلسطين التاريخية لأنه يقبل بهذا التهويد من حيث المبدأ على 78 بالمائة من فلسطين على الأقل، هذا فضلاً عن أنه يسعى لأن يكون جزءاً من المنظومة الإقليمية لما يسمى «الشرق الأوسط الجديد»، وهذا المشروع هو غير مشروع الانسحاب الصهيوني دون قيد أو شرط، وهو ما سنأتي عليه لاحقاً.
أما مشروع ما يسمى بالدولة الثنائية القومية الذي يدعو له إدوارد سعيد وعزمي بشارة وغيرهم، أي «إسرائيل» العربية واليهودية، على ما يزعم أنصار هذا المشروع، فهو أكثر خطراً من الناحية الإيديولوجية من مشروع الدويلة لأنه يجعل مسألة عروبة فلسطين، غير القابلة للنقاش عندنا، مسألة مشروطة بقبولنا بيهودية فلسطين. وبالتالي، يجعلنا هذا المشروع فعلياً أكثر تقبلاً لمبدأ يهودية فلسطين، في الوقت الذي يصر فيه الصهاينة على رفض عروبة فلسطين.
هذا يعني أن مشروع الدولة الثنائية القومية يميع الهوية العربية لفلسطين ويقدم مسبقاً اعترافاً مبدئياً بحق دولة العدو بالوجود بشرط قبول العرب فيها كأقلية عرقية، وبالتالي، ينشر الوباء السياسي للتعايش في صفوفنا من جهتين، في الوقت الذي لا يلقى فيه هذا المشروع تأييداً يذكر في صفوف «الإسرائيليين» فتصبح بذلك أهميته السياسية العملية في معسكر الأعداء مساوية للصفر.
وتبقى المشكلة في الشعارين، سواء «الدولة المستقلة» أو «الثنائية القومية»، هي القبول الضمني بأدوات التهويد، ومن ثم، بالمنظومة الإقليمية التي تحمي المصالح الاستعمارية في هذا الجزء من العالم. وكلاهما في النهاية يؤدي إلى تضليل الشعب الفلسطيني حول الطبيعة الحقيقية للصراع النابعة من حقيقتين ثابتتين: أن فلسطين عربية، وأن اليهود فيها غزاة.
أما مشروع الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين التاريخية، فقد أعيد طرحه مؤخراً من قبل بعض الكتاب على أساس قبول التعايش مع الوجود اليهودي في فلسطين. ومن هؤلاء الكتاب ليني برنر Lenni Brenner، اليهودي الأمريكي الذي يقول إنه معاد للصهيونية، والذي وزع مقالاً في المواقع الفلسطينية على الإنترنت يدعو فيه إلى تأسيس تنظيمات عربية-يهودية مشتركة من أجل تحقيق هدف الدولة الديموقراطية العلمانية (أنظر: مجلة Counterpunch ، عدد 19 يونيو/ حزيران، 2002، أو اذهب إلى الموقع التالي:
www.counterpunch.org/brenner0619.html
وتدعو فيه إلى دولة ديموقراطية علمانية تنبثق من هناك أيضاً د. غادة الكرمي التي وزع باسمها مقالٌ على الإنترنت في 29 يوليو/تموز 2002 الدولة الثنائية القومية على أساس فكرة التعايش بين العرب واليهود في فلسطينأن تجدوا النسخة العربية من هذا المقال في العدد . (ويمكن تموز/أب، يوليو/ أغسطس، 2002، من مجلة الآداب التي تصدر في بيروت، ص 31).
وهناك غير برنر والكرمي كثيرون..
فلنلاحظ أن الدولة الديموقراطية العلمانية التي يجري التحدث عنها هنا تختلف تماماً عن خط الدولة الديموقراطية العلمانية الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية الستينات وبداية السبعينات. فالميثاق الوطني الفلسطيني الذي سبق وطرح هذا الخط يعتبر:
1 - أن فلسطين جزء لا يتجزأ من الأمة العربية (البند الأول)، وأن النضال لتحرير فلسطين يترابط مع النضال لتحقيق الوحدة العربية (البنود 12 و13 و14 و15).
2 - أن اليهود الذين أتوا إلى فلسطين بعد شروع الغزو الصهيوني ليسوا فلسطينيين (البند السادس).
3 - أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين (البند التاسع)، وأن العمل الفدائي هو نواة حرب التحرير الشعبية التي يخوضها الشعب الفلسطيني (البند العاشر).
إذ دون التأكيد على النقاط أعلاه، خاصة الأولى المتعلقة باعتبار فلسطين جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، فإن خط الدولة الديموقراطية العلمانية (الذي لم يطرح في الميثاق الوطني الفلسطيني نفسه بل في وثيقة منفصلة) يتحول بالضرورة إلى مشروعٍ للتعايش مع الوجود الصهيوني في فلسطين، بعد أن كان مع العروبة والكفاح المسلح مشروعاً لتحرير فلسطين من الوجود الصهيوني فيها.
وقد عقدت عام 1998 جلسة هزلية للمجلس الوطني الفلسطيني حضرها الرئيس الأمريكي السابق كلينتون تمت فيها محاولة شطب البنود المتعلقة بالكفاح المسلح وباليهود الذين أتوا إلى فلسطين بعد الغزو الصهيوني، والمواد المتعلقة بالعلاقة بين تحرير فلسطين والوحدة العربية رقم 13 و14 و15. أما البند الأول القائل بأن فلسطين جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، فيبدو أن أمر شطبه ترك عملياً للكتاب الداعين إلى التعايش مع المشروع الصهيوني في قالب يسمونه الدولة الديموقراطية العلمانية. والحقيقة هي أنَّ أهم ما في الميثاق الوطني الفلسطيني هو التركيز على عروبة فلسطين. هذا الشعار البسيط الذي تلهج به الجماهير العربية في المظاهرات يلخص بكلمتين كل المسألة: «فلسطين عربية». ولا يهم أن تكون فلسطين دولة ديموقراطية أو علمانية أو اشتراكية أو غيره إن لم تكن عربية أولاً. ولا يكفّ اليهود في فلسطين عن كونهم غزاة ومحتلين ولو افترضنا جدلاً أنهم أشهروا إسلامهم، وهم لن يفعلوا ذلك، وليس هذا مشروعهم. لكن النقطة المركزية هنا هي أن البرنامج الذي ينطلق من اعتبار المعركة اليوم في فلسطين معركة تناحرية مع الوجود اليهودي فيها أولاً، أي البرنامج الذي تتبناه أقسام واسعة من شعبنا ومن الحركة الإسلامية والقوى الوطنية، هو البرنامج الأكثر عقلانيةً وتقدميةً وقوميةً وإسلاميةً معاً في هذه اللحظة الراهنة، وهو البرنامج الأكثر مناهضةً للإمبريالية في خضم سعيها المحموم للسيطرة على العالم. فحيث المشروع الاستعماري هو تاريخياً مشروع تهويد فلسطين، يكون المشروع المقاوم له هو عروبة فلسطين، لا مشروع التعايش مع تهويد فلسطين في ظل وهمٍ أجوف ديموقراطي أو اشتراكي.
بالمناسبة، أود أن أذكِّر بعض اليساريين الذين قد يعتبرون هذا الطرح قومياً شوفينياً أن ماهر الشريف يقول في كتاب «البحث عن كيان - دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908 -1993» إنَّ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رفضت في مؤتمرها المنعقد في آب/ أغسطس 1968 أن يكون شعار الدولة الديموقراطية مدخلاً لبناء دولة ثنائية القومية دون هوية عربية وذلك باسم الديموقراطية، ودعت بالتالي إلى قيام دولة عربية ديموقراطية، على أن تحل مشكلة اليهود في الإطار العربي الأوسع، لا في إطار فلسطين. (أنظر: الآداب، العدد تموز/أب، يوليو/ أغسطس، 2002، ص 27). كان ذلك عام 1968، ومنذ ذلك الوقت إما أن يكون موقف اليسار الفلسطيني قد تقدم إلى الأمام أو تقهقر إلى الوراء، فالطبيعة لا تعرف الجمود.
ثالثاً - عبقرية الإبداع الشعبي الفلسطيني: العمليات الاستشهادية
بعدما دخل النظام العربي في عقد التسعينات مرحلة «السلام كخيار استراتيجي» بعد مؤتمر مدريد، وحتى بعد أوسلو ووادي عربة وأخواتها، لم يتخلَّ الكيان الصهيوني عن استراتيجيته القائمة على تطوير علاقاته مع القوى الاستعمارية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة أو في المناطق المحتلة عام 1948. وحافظت كل حكومات حزب العمل أو الليكود أو الائتلافية على هذه الثوابت كخطوط لا تنقطع في الاستراتيجية الصهيونية منذ أكثر من قرن كما جاء آنفاً، حتى وهي تعمل على تحقيق مشروع «الشرق أوسطية» القائم على استخدام «إسرائيل» ككل كقاعدة خلفية للانقضاض على عموم المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وكان من ثمرات هذه الاستراتيجية خلال عقد التسعينات ما يلي:
1 - الاستفادة من انحلال الاتحاد السوفياتي لاستيعاب أكثر من مليون مهاجر في دولة العدو، تبين أن أكثر من ثلثهم من غير اليهود، وبلغ عدد المهاجرين إلى «إسرائيل» مليون و121 ألفاً منذ عام 1989 حتى عام 2002 حسب موقع وزارة استيعاب الهجرة «الإسرائيلية» على الإنترنت


2 - تشييد حوالي 95 مستعمرة ونقطة استيطانية جديدة في الضفة الغربية وغزة منذ توقيع اتفاق أوسلو فقط، وإقامة عشرات الطرق الالتفافية بين المستعمرات مما أدى إلى عزل القرى والبلدات الفلسطينية عن بعضها البعض، بعد وصول مساحة الأراضي المصادرة إلى أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية وحوالي ثلث مساحة غزة، هذا عدا تعزيز السيطرة على القدس من خلال زيادة عدد المستعمرين اليهود فيها.
3 - ازدياد التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري والأمني بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» إلى درجات غير مسبوقة من قبل، على عكس ما توقع منظرو «السلام كخيار استراتيجي» الذين حسبوا خطأً أن دولة العدو ستقل أهميتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي اتضح بعد ذلك أن انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه عزز أهمية الكيان الصهيوني في الانقضاض على المنطقة العربية ومواردها وإعادة رسم خرائطها. وإذا كانت تفاصيل التعاون الأمني والعسكري والسياسي بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة معروفة في خطوطها العريضة، فإن الأمر الأقل ذيوعاً، وليس الأقل خطراً، قد يكون الجهود الهائلة التي قامت بها الشركات الأمريكية والأوروبية الكبرى بالتعاون مع حكوماتها لنقل التكنولوجيا المتطورة والبرمجيات والاتصالات ورأس المال إلى دولة العدو خلال التسعينات، من أجل تحقيق التفوق الصهيوني على العرب في زمن السلم كما في زمن الحرب، مع العلم أن التكنولوجيا المتطورة لها تطبيقات عسكرية أيضاً. وكان من نتائج ذلك تحقيق الاقتصاد الصهيوني قفزات نوعية هائلة، حتى أصبح حوالي ثلثي الناتج الصناعي فيه يأتي من الصناعات الدقيقة والتكنولوجية (أنظر: مجلة الاقتصاد والأعمال، كانون الثاني/يناير 2000، رشيد حسن: حرب السلام الشامل).
ولكن، حسب موقع وزارة استيعاب الهجرة الصهيونية على الإنترنت، انخفضت معدلات الهجرة إلى الكيان الصهيوني بشكل ملموس منذ بدأت الانتفاضة في أواخر صيف عام 2000، فعدد المهاجرين انخفض من 78 ألفاً عام 1999إلى 61 ألفاً عام 2000إلى 44ألفاً عام 2001إلى 22 ألفاً عام 2002. أما الهجرة المعاكسة من دولة العدو فقد نمت أيضاً بشكل انفجاري، دون أن يعني ذلك بالطبع التخلي عن الجنسية «الإسرائيلية». وقد ذكر مثلاً تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية من برلين في هذا الصدد يوم 17 يونيو/حزيران 2002 أنَّ طلبات الحصول على جنسية ألمانية قفزت فجأةً من بضعة مئات إلى بضعة آلاف مع العام 2002. وليست هناك، على حد علمي، تقارير دقيقة عن عدد اليهود الذين غادروا «إسرائيل» خلال فترة تصاعد الانتفاضة، ولكن تقارير صحفية مختلفة وضعت الرقم بين مئات الآلاف ومليون. ومن ذلك مثلاً تقرير للجامعة العربية نشر ملخص عنه في الصحف يوم 17 أيلول/سبتمبر 2002 يقول أن الهجرة المعاكسة من الكيان الصهيوني منذ بدء الانتفاضة بلغت حوالي ربع مليون مستعمر.
أما انتقال رأس المال والتكنولوجيا إلى دولة العدو منذ بدء الانتفاضة فقد انخفض إلى مستويات رهيبة. مثلاً، في النصف الأول من عام 2002، كان رأس المال الأجنبي الداخل إلى دولة العدو أقل بنسبة 95 بالمائة عنه في العام 2001 حسب البنك المركزي «الإسرائيلي»، وسحب المستثمرون الأجانب مئات الملايين من إيداعاتهم في البنوك «الإسرائيلية»، كما أنهم باعوا الكثير من أصولهم في دولة العدو حسب المصدر الأمريكي التالي:
http:// www.thestreet.com/_yahoo/tech/themarker/10034535.html
وكان الاستثمار الأجنبي المباشر في الأحد عشر شهراً الأولى من عام 2000 قد بلغ 6,5 مليارات دولار، منها حوالي 4 مليار في مشاريع ملموسة والباقي استثمارات مالية. وانخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في اقتصاد العدو إلى 3,1 مليار في عام 2001، أي في العام الأول للانتفاضة، وهو انخفاض بنسبة أكبر من 50 بالمائة.
أما حصيلة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في النصف الأول من عام 2002 فكانت 168 مليون دولاراً فقط، وهو انخفاض بنسبة 95 بالمائة عن عام 2001، كما ذكرتُ آنفاً. ولن ندخل هنا في تأثير الانتفاضة على ارتفاع مستويات البطالة وشلّ المرافق الترفيهية وانخفاض معدلات السياحة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية، فالنقطة المركزية هنا تتعلق بتأثير الانتفاضة على المدى البعيد لا القريب. والاستثمار الأجنبي المباشر الذي يحمل معه رأس المال والتكنولوجيا إلى دولة العدو، وبالتالي يعطيها تفوقاً نوعياً ذي تطبيقات عسكرية، هو عصب القوة في العصر الحديث الذي قطعت شريانه الانتفاضة إلا قليلاً.
وفي الوقت الذي كانت المزيد من المستعمرات تشيد في ظل حكومة شارون، كان سكان المستعمرات القديمة يهربون، وأسعار المنازل فيها تتدهور..
من الواضح إذن أن الانتفاضة تفت في عضد العناصر الأساسية للقوة الصهيونية بشكل لم تتمكن من القيام به المقاومة الفلسطينية منذ نشأتها. ولقد أعطى الفلسطينيّون العالم في الانتفاضة مثالاً على أقصى أشكال التضحية بالنّفس على مذبح التحرير، متعدّين بذلك أعظم الأمثلة في صفحات النضال، من الجزائر إلى فيتنام إلى تشي جيفارا، وهو مثال القنبلة البشريّة. نعم، القنبلة البشريّة الفلسطينيّة ليست الأولى من نوعها في تاريخ النضالات العربيّة أو الدّوليّة، حيث يمشي المناضل عمدًا نحو موت مؤكد لإعطاء الحياة لقضية المظلومين والمضطهدين. لكنها المرّة الأولى في التّاريخ الحديث لحركات التّحرير في جميع أنحاء العالم، التي تصبح فيها القنبلة البشريّة ظاهرة اجتماعيّة سياسيّة شاملة تخترق شرائح كبيرة من شعب كامل، وليس مجرد حفنة أفراد متفانين. ففي فلسطين فقدت التضحية بالنفس تميّزها الخاص. وأصبحت عوضاً عن ذلك، الامتداد الطّبيعيّ لثقافة المقاومة.
إنّ تكتيك القنبلة البشرية، التي نشأت وترعرعت في ظل الظّروف الخاصّة للنضال العربيّ الفلسطينيّ، ظروف التّفاوت العسكريّ الشّديد ضدّ مجتمع الغزاة - المستعمرين، سيشغل تفكير مضطهدي هذا العالم لعقود كثيرة، عندما يصل نضالهم إلى المرحلة العسكرية.
وفي الشارع العربي، أحرزت الحركة الشعبيّة العفوية المؤيدة للانتفاضة تقدماً ملموساً بالرّغم من الاضطهاد الوحشيّ للأنظمة العربيَّة، وعدم صلابة أحزاب المعارضة «القانونيَّة» والمتحدّثين الرّسميّين والنقابات. ولكن كما هو معروف، لا يمكن إحراز شيء ملموس استراتيجياً دون تنظيم وتخطيط سياسي، وهذا ما تفتقده الحركة الشعبية العربية في الوقت الحالي. في أثناء ذلك، كانت المبادرات الشّعبيّة المحليّة تنمو بانتظام بينما ثقافة المقاومة تتدفق من فلسطين إلى الشارع العربي، في نوع خاص من «ترشيح» التأثير Trickle down effect الشعبي الذي يجعل الحكومة الأمريكيّة والأنظمة العربيَّة والصهاينة في منتهى التعاسة.
المهم، اخترق الشعب العربي الفلسطيني أوسلو وأخواتها بمقاومة بطولية توَّجها بصمود رائع لمخيم جنين وبـ56 قنبلة بشرية حتى تاريخ 12 حزيران/يونيو 2002 حسب الغارديان البريطانية في ذلك التاريخ. وأهمية هذه القنابل البشرية لا تنبع فقط من دورها الاستراتيجي في تعديل ميزان القوى لمصلحة الشعب الفلسطيني، وفي ضرب نقطة الضعف الأولى عند العدو وهي العنصر البشري، وفي إفشال مخططات إخضاع الشعب الفلسطيني سياسياً أو أمنياً تحت عباءة «العملية السلمية» أو «السور الواقي» أو غيره، وفي شلِّ تذبذب القوى التسووية في الساحة الفلسطينية الساعية إلى إيجاد دور لها ضمن المنظومة الإقليمية، وفي تحريك الشارع العربي، وفي خلق حالات شقاق في صفوف العدو مثل الامتناع عن أداء الخدمة العسكرية في الضفة الغربية وغزة، وغير ذلك كثير... إن الأهمية الأولى لتكتيك القنابل البشرية والدعم الشعبي العربي والفلسطيني العارم لها ينبع من تعبيرهما عن فهمٍ عميق لطبيعة الصراع على أنه صراع تناحري ضد الوجود اليهودي في فلسطين بالأساس،
لا فرق في ذلك بين من يسمون «مدنيين» أو عسكريين، فكلهم غزاة، وجودهم بحد ذاته على أرض فلسطين يصب في تحقيق الهدف الاستراتيجي بتهويدها.
القنبلة البشرية إذن هي التعبير الأسمى عن المشروع السياسي الذي ينطلق من رفض أدوات التهويد من حيث المبدأ، ومن إبداع وسائل مقاومتها بالفعل، فهي أرقى حالة أيديولوجية وصل إليها النضال الوطني الفلسطيني منذ أكثر من قرن، ولأنها كذلك، فهي ليست في ممارستها أو في الإنجازات التي تحققها ملكاً لهذا الطرف السياسي أو ذاك، بل للشعب الفلسطيني بأسره، وقد مارستها كل شرائح الشعب الفلسطيني من إسلاميين ووطنيين ويساريين ورجال ونساء وشبان وشيوخ. فهي تعبير عن وعي شعبي فلسطيني تجذّر فيه إدراك حقيقي لكُنْه الصراع وطبيعته التناحرية مع الوجود اليهودي في فلسطين، فهي الامتداد المنطقي للنضال الفلسطيني المستمر منذ أكثر من مائة عام.
رابعاً - خلاصة: أين يقف الصراع اليوم؟
بيد أن الخطر الأساسي على ممارسة العمليات الاستشهادية اليوم لا ينبع من آلة الإرهاب الصهيونية نفسها، بل من:
1) الخط السياسي للسلطة الفلسطينية الذي اعتبر منذ البداية أن الانتفاضة يجب أن تستغل لتحسين شروط التفاوض مع العدو الصهيوني فلم يتردد حفاظاً على دوره من ممارسة التنسيق الأمني مع العدو في الوقت الذي كان يمارس فيه الاغتيالات والقمع ضد شعبنا. وتدلُّ تصريحات عبد الرزاق اليحيى، وزير الداخلية في السلطة، كما تدل المؤشرات الميدانية على الأرض، أن السلطة قد عادت مؤخراً للتنسيق الأمني مع العدو لإفشال العمليات العسكرية من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنية لا علاقة لها بهدف التحرير.
2) مجموعات المفاوضين والمثقفين الليبراليين وقطعان التمويل الأجنبي التي يرتبط فكرها ومصالحها بمقولات التعايش، وقد أصدر هؤلاء مؤخراً بيانا،ً بتمويل من الاتحاد الأوروبي، يدعون فيه إلى وقف العمليات الاستشهادية كما هو معروف.
3) التيارات الانتهازية داخل بعض التنظيمات وبعض أدعياء اليسار الذين سمسروا مؤخراً في الوصول إلى اتفاق غزة بين فروع التنظيمات الفلسطينية في القطاع تمهيداً لإيقاف العمل المسلح في المناطق المحتلة عام 1948.
بالطبع، السياسي البراغماتي يرى مصالحه الآنية فقط ويعتبر كل ما عدا ذلك عواطف مراهقة ونظريات مثالية بعيدة عن الواقع. فهو ينطلق من القبول بالأمر الواقع كحقيقة أزلية، ومن ثم يعتبر المساومة على الأهداف الاستراتيجية من أجل تحقيق مكاسب عاجلة ضمن هذا الأمر الواقع أمراً بديهياً، وهو يبرر سلوكه الانتهازي خلال ذلك بدواعي الضغط اليومي الذي لا يعرفه الآخرون، بينما الواقع هو أن مصالحه الفردية تتعارض مع مصالح الجماعة ككل. وهناك أيضاً من يحاول بكل طيب نية وقصر نظر في آنٍ معاً أن يخضع البرنامج الاستراتيجي للنضال الفلسطيني للظروف القاهرة للعمل السياسي العلني للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر أو ظروف الأراضي المحتلة عام 1948. والحقيقة هي أن هذه الظروف المحددة في ساحات بعينها لا يجوز أن تملي البرنامج الاستراتيجي لعملنا السياسي أو مهماتنا التاريخية. على العكس، ففي مثل تلك الحالات التي تحفل فيها ظروف العمل العلني بالقيود والمعوقات والألغام، لا بد أن تتحول مهمة التنظير ووضع الاستراتيجيات الطويلة المدى للجالسين في ظروف أكثر توازناً أو للقادرين على المحافظة على مبدئيتهم وصلابتهم في ظل الظروف الصعبة مثل عبد العزيز الرنتيسي. فلا يجوز مثلاً أن يأخذ قائد فلسطيني معروف على عاتقه مسؤولية إصدار بيان من داخل سجن صهيوني يدعو فيه عملياً لوقف العمل المسلح في الأراضي المحتلة عام 1948!
وليست هذه دعوة للتقليل من شأن معاناة أهلنا في الداخل خلف قضبان الاحتلال. فالاحتلال منذ بدأت الانتفاضة صعد من سياساته القمعية الإرهابية بشكلٍ رهيب. يشهد على ذلك حوالي ألفي شهيد، وعشرات الآلاف من الجرحى والمعتقلين. هذا طبعاً غير هدم آلاف المنازل وعمليات القصف العشوائي، وإغلاق وحصار المدن والقرى حتى الاختناق، وسياسات منع التجول وقتل الاقتصاد الفلسطيني بشكل مدروس الذي يهدف إلى تجويع الناس وتركيعهم. فالمعاناة الفلسطينية تحت الاحتلال حقيقية وراهنة بالتأكيد، وهي لطخة عار على جبين الإنسانية بقدر ما هي لطخة عار على العرب والمسلمين، وهي تعبير عن القصور النظري والعملي لقوى المعارضة العربية (أي قصورنا نحن)، بقدر ما هي تعبير عن تواطؤ الأنظمة العربية وضعفها. لكن المعاناة الشديدة، بما تحدثه من ضغوط، ليست بالضرورة المكان الأفضل لتشكيل رؤية استراتيجية دقيقة وواضحة لما يجري حول المرء. وهي ليست بالتالي المكان الأمثل لوضع البرامج الاستراتيجية، بل للصمود والاشتباك وتقديم التضحيات، وهو ما لم يبخل الشعب الفلسطيني فيه يوماً.
فمن هي الجهة القادرة والمهيأة، تحت هذه الظروف، على تطوير الرؤية الاستراتيجية المناسبة لمواجهة الصهيونية؟ وكيف تكتسب هذه الجهة المشروعية، وكيف تحول استراتيجيتها إلى برنامج عمل على الأرض؟ هذا ما يحتاج إلى الكثير من الجهد الجماعي وإعمال الفكر للإجابة عليه. ولعل إحدى المقدمات الضرورية للإجابة على هذه الأسئلة المفصلية هو تشخيص طبيعة الصراع في فلسطين تشخيصاً صحيحاً، وهو ما يسعى كاتب هذه السطور إلى تحقيقه هنا. لكن هذا لا يعني الدعوة إلى تأجيل الصمود والاشتباك مع المشروع الصهيوني على ثغور فلسطين إلى حين تكوين الأدوات الاستراتيجية للتحرير على المستوى العربي. على العكس من ذلك، إن كل نصر تكتيكي أو استراتيجي يحققه العدو في فلسطين أو في العراق أو غيره يجعل إمكانية النهوض التحرري أكثر صعوبةً في المستقبل. والعكس صحيح أيضاً، إذ أن كل نصر تكتيكي أو استراتيجي يتحقق بصمود العراق أو فلسطين يخلق ظروفاً أفضل لمشروع النهوض التحرري مستقبلاً. لذلك، تصبح المهمة الاستراتيجية في الساحات التي تتعرض لضغط العدوان، من منظور مصلحة الأمة ككل، هي الصمود وديمومة الاشتباك. ففلسطين والعراق يحملان اليوم عبء الأمة على كتفيهما ويدفعان الضريبة بالدم والمعاناة عن كل العرب والمسلمين وشرفاء هذا العالم، ولكن لا خيار إلا الصمود وديمومة الاشتباك، لكي لا ينوء العالم بكل ثقله فوق أجساد المستضعفين، كما قال غيفارا.
وعلى كل حال، لن يصبح الأعداء أكثر لطفاً معنا في فلسطين والعراق، ولن يقدموا لنا حقوقنا على طبقٍ من ذهب، إن نحن استسلمنا لهم...
يكفي أن أحد العوامل الأساسية المؤدية إلى انفجار الانتفاضة الثانية كان «سقوط الأوهام المتعلقة بخيار ومسار المفاوضات والسلام من مدريد إلى أوسلو فوادي عربة فطابا فواي بلانتيشن فشرم الشيخ فالكامب - 2، وانكشاف حقيقة فلسفة التفاوض الإسرائيلية وفلسفة التفاوض الفلسطينية، وسقوط الأوهام المتعلقة باحتمالات التعايش والتطبيع» (من محاضرة غير منشورة للباحث نواف الزرو في منتدى ابن رشد في عمان في أب/أغسطس 2002).
وقد تعمقت هذه القناعات خلال الأشهر الأولى للانتفاضة حينما سقط عشرات الشهداء والجرحى بين العرب الذين يعيشون ضمن الخط الأخضر في «إسرائيل الثنائية القومية». وجاءت لامبالاة منظمات التمويل الأجنبي وحقوق الإنسان إزاء إطلاق القناصة الصهاينة النار بدم بارد على رؤوس وأجساد آلاف الأطفال الفلسطينيين لتثبت أنها «أكثر حرصاً على نشر ثقافة التسوية منها على معاناة الفلسطينيين» (من مقالة لأحمد الأشقر حول دروس مخيم جنين وزعت على الإنترنت في نهاية نيسان 2002). ولم تبدأ منظمات التمويل الأجنبي وحقوق الإنسان بالمناسبة بالإشارة إلى معاناة الفلسطينيين إلا لتغطي بها إدانتها المتصاعدة للعمليات الاستشهادية. وانكشفت خلال ذلك بصورة أكبر حقيقة الطبيعة الصهيونية العنصرية الإرهابية الإجرامية للملأ على الفضائيات،
وانكشفت طبيعة الدور الأمريكي لمن كان يتوهم منه خيراً، وانكشف عجز وتآمر الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية. وفي الآن عينه، خرجت قطاعات من قواعد حركة فتح (مثل كتائب الأقصى والعودة) وحتى من أجهزة السلطة عن الخط السياسي للسلطة، في الوقت الذي انكشفت فيه ارتباطات قطاعات أخرى من هذه الأجهزة مع العدو، فكان أن سقطت رام الله عاصمة السلطة بساعة، بينما اتحدت كتائب الأقصى والعودة ميدانياً بالانتفاضة حتى وضعا على «لائحة الإرهاب» الأمريكية. وكانت النتيجة الطبيعة لكل ذلك تجذُّر الانتفاضة نفسها وتصاعدها بشكل خرج عن كل التوقعات. وقد قام ذلك التصاعد في وتيرة الانتفاضة على ما يلي:
1) الانتقال إلى التركيز على العمل المسلح عوضاً عن محاولة استجداء العطف من الغرب، ويقول الباحث نواف الزرو في هذا الصدد اعتماداً على الصحف العبرية إن العمليات العسكرية الفلسطينية تصاعدت بنسبة 337 بالمائة خلال فترة قصيرة جداً.
2) قيام أشكال من التنسيق الميداني بين القوى المقاتلة من كل التنظيمات وكان من ثمرات ذلك الصمود البطولي لمخيم جنين، دون الوقوع في فخ التنسيق السياسي مع السلطة والقوى صاحبة المصلحة في تطويع الانتفاضة كما في اتفاق غزة الأخير.
3) رفع شعار دحر الاحتلال دون قيد أو شرط، وهو الشعار الأكثر ملاءمة لهذه المرحلة، حيث أنه يستبعد مسبقاً الدخول في اتفاقات مع العدو أو الاعتراف بحقه في الوجود كشرط للانسحاب، فهو شعار مفصل على قياس تجربة تحرير جنوب لبنان بقدر ما كانت تلك التجربة الرائعة أحد عوامل انطلاق الانتفاضة الثانية، وهو شعار مرحلي لا يساوم على المبدأ، ويستقطب في الآن عينه قواعد الكثير من القوى التسووية.
كيف نحافظ على ديمومة الانتفاضة؟
وقد حققت هذه العوامل بتضافرها نجاحات معنوية ومادية باهرة، فخلقت توازن ردع ورعب مع العدو الصهيوني، وهزت أركان وركائز الأمن والاستقرار للمجتمع الصهيوني، وشلَّت السياسة الأمريكية في المنطقة مؤقتاً، واحتوت الكثير من الاختراقات التطبيعية التي زُرعت خلال عقد من الزمان في فلسطين وفي المنطقة العربية على حدٍ سواء. وبالرغم من ذلك، كان من الشروط الضرورية التي لم تتحقق بعد لديمومة الانتفاضة ونجاحها ما يلي:
1) قيام جبهة عربية مساندة للانتفاضة تؤازرها عسكرياً ومالياً وسياسياً وتفتح الجبهات على طول الحدود مع العدو الصهيوني لدعم الانتفاضة، وقد تمكنت الأنظمة من قمع الحركة الشعبية العربية المساندة للانتفاضة أساساً لعدم تمكنها من إيجاد أطر منظمة ونقاط مرجعية مبدئية توجه طاقتها.
2) التخلص من العبء الذي تشكله القوى التسووية، وعلى رأسها قيادة السلطة ورموزها، على حركة الانتفاضة، خاصة من حيث التنسيق الأمني مع العدو لإحباط العمليات العسكرية، ثم من حيث آليتها السياسية ونشر مدرسة الفساد وأوهام التعايش مع أدوات التهويد.
3) إزالة التلوث الفكري والسياسي الذي لحق بقطاعات من الشعب الفلسطيني من جراء استبدال أهداف موبوءة قابلة للانسجام مع أدوات التهويد مثل «الدولة» و«الاستقلال» ( في مكانٍ ما وبطريقةٍ ما) بهدف تحرير أي شبر من فلسطين (دون الاعتراف بالعدو أو عقد أي اتفاقات معه)، والقضية هنا تتعلق لا بالقدرة على تحديد الهدف الاستراتيجي فحسب،
بل بالقدرة على تحديد الهدف المرحلي بدقة دون التوهم أن الورمَ شحم، وأن الأجهزة البيروقراطية والجوازات والسفارات والسجاد الأحمر وما شابه هي فلسطين.
وها هي «إسرائيل» اليوم، وخلفها الولايات المتحدة والأنظمة العربية، تحاول القضاء على الانتفاضة في لحظة تباطئها نتيجة ثقل العوامل الثلاثة السابقة، تعززها مجموعة ظروف دولية وعربية غير مواتية، والعوامل الثلاثة السابقة تبقى أهم من الظروف العربية والدولية لأنها تؤذي الانتفاضة من داخلها على المستويين الميداني والفكري. وقد نقلت وسائل الإعلام يوم الاثنين 16/9/2002 خبراً مفاده أن مدربين مصريين وأردنيين يقومون بدورة إعادة تأهيل للأجهزة الأمنية للسلطة بإشراف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA بعد أن قامت الأخيرة باستبعاد كل العناصر المشكوك بولائها من هذه الدورة الأمنية. فالسلطة لا تريد أن تقطع خيوطها مع الطرف الأمريكي- الصهيوني كي لا تخسر دورها، في الوقت الذي يطالبها هذا الطرف بالمزيد والمزيد، والثمن هنا هو دائماً رأس الانتفاضة.
وعلى الرغم من أن العراق مثلاً يقدم دعماً ثميناً لفعاليات الانتفاضة في الوقت الذي يتعرض فيه بدوره للعدوان، فإن هذا لا يمكن أن يعوض عن دور الشارع العربي في دعم الانتفاضة مالياً وتنظيمياً وميدانياً بشكل مباشر. فدون حركة شعبية عربية تفرض على الأنظمة إغلاق السفارات الصهيونية وقطع العلاقات مع العدو والتوقف عن منع الدعم للانتفاضة، ستبقى الانتفاضة محاصرة على مستوى رسمي عربي وهو ما يؤذي الانتفاضة أكثر من عمليات الإغلاق التي تمارسها قوات الاحتلال على المدن والقرى الفلسطينية.
بيد أن المعادلة التي تخلقها أدوات التهويد، وهي معادلة صراع الوجود، والتي أخرجت مؤخراً النقاش الصهيوني عن الحاجة إلى ترحيل الفلسطينيين إلى الحيز العلني، تفرز بالضرورة الحاجة الفلسطينية إلى الاستمرار بالانتفاضة إلى النهاية. فلا خيار سوى خيار الاستمرار بالانتفاضة، وإلا ستعود أدوات التهويد لتفعل فعلها بعد أن تمكنت الانتفاضة من تعطيل هذه الأدوات مؤقتاً كما رأينا آنفاً.
إن شعباً اعزلاً كالشعب الفلسطيني ما زال يتعرض لخطر الاقتلاع من أرضه ولخطر محق الهوية ولمصادرة الأراضي والاعتقال والاغتيال والتضييق على سُبل العيش ولمحاولات إعادة صياغة وعيه ووجدانه بطريقة تتناسب مع أدوات التهويد، لا يملك أن يواجه الآلة الصهيونية إلا بالصمود والتمسك بأرضه وبحقه في الوطن مهما طال الزمن، ولا يملك أن يواجه التفوق الصهيوني التكنولوجي والعسكري والمالي إلا بحرب الشعب ووسائل حرب العصابات وبالروح الاستشهادية. لكن أهم ما يمكن أن يملكه الشعب الفلسطيني في مواجهة القوى الملتئمة ضده هو وضوح الرؤيا الاستراتيجية والمبدئية التي لا يتحقق نصر دونها. فكما قال المفكر الإستراتيجي فون كلاوزفيتز: «ليس هناك عموماً شيء في الحياة أكثر أهمية من إيجاد الزاوية الصحيحة للنظر والحكم على الأمور، ومن ثم المحافظة على تلك الزاوية».

من خلال إجراءاته المشددة: الاحتلال يعيد سيناريو احتلال القدس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القدس المحتلة-كتب راسم عبد الواحد:
شرعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، عصر اليوم، إغلاق وسط مدينة القدس المحتلة، وأعاقت حركة ونشاط المدينة وسكانها، وشدّدت إجراءاتها العسكرية والأمنية على كافة المداخل الرئيسية الثابتة للمدينة المقدسة، في مناسبة ما أطلقت على تسميته بيوم القدس.
وذكر مراسلنا في المدينة المقدسة بأن سلطات الاحتلال أغلقت كافة الطرق الرئيسية المؤدية إلى وسط المدينة والى القدس العتيقة داخل أسوار بلدتها وباتجاه حائط البراق، ومنعت حركة المركبات، وعملية الدخول والخروج من شارع السلطان سليمان المحاذي لسور القدس من جهة راس العامود.
وأضاف أن سلطات الاحتلال منعت كذلك حركة المركبات الخصوصي والعمومي والدخول إلى القدس من جهة طريق أريحا القديم ومن قرية سلوان، جنوب المسجد الأقصى المبارك باتجاه باب الأسباط، أحد بوابات البلدة القديمة، ومن طريق حي واد الجوز حتى مدخل متحف القدس "روكفلر" طريق صلاح الدين، ومن جهة جبل الزيتون الطور والصوانة حتى مدخل الحسبة والسوق التجاري، ومن جهة شارع رقم واحد، الفاصل بين شطري المدينة المقدسة باتجاه باب العمود.
ويخيم على المدينة المقدسة أجواء عسكرية بعيدة كل البعد عن المظاهر الحياتية الاعتيادية وسط تدفق كبير للمستوطنين اليهود باتجاه حائط البراق ومقبرة "اليهود" في منطقة راس العامود، وفضل الكثير من المواطنين إغلاق محلاتهم التجارية في المدينة المقدسة تحسبا من اعتداءات اليهود المتطرفين الذين اعتادوا في مثل هكذا مناسبات الاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم وسط شعارات معادية للعرب والفلسطينيين.